من الصعب أن تفهم أحداث فيلم لم تشاهد إلا مقاطع قصيرة منه، كما أن الأمر يصبح مستحيلًا لو كان الفيلم بلغة لا تتقنها! لو اعتبرنا أن الإنسان هو الفيلم فإن الجينوم البشري هو ملف الفيلم الكامل مع الترجمة!
مشروع لفهم الإنسان
عام 1990 تم البدء في مشروع لفك شفرة الجينوم البشري، شارك فيه مئات العلماء من عدد كبير من المراكز البحثية والجامعات في دول مختلفة.بدأ المشروع بخطة طموح تمتد لخمس سنوات، لكن تمت مراجعتها وامتد المشروع لأكثر من عشرين عامًا! عندما بدأ المشروع لم يكن التقدم الحاصل في مجال التقنية الحيوية كما هو اليوم. بدأ مشروع الجينوم البشري بعد أقل من ٢٠ سنة من اختراع تقنية سانجر لتحديد تتابع الحمض النووي (Sanger Sequencing)! لم يكن قد مضى على تطوير تفاعل البوليميريز المتسلسل PCR إلا سبع سنوات.. استمر المشروع لسنوات طويلة، ليتم الإعلان عن أول مسودة للجينوم عام 2000، ويتم نشرها مطلع عام 2001. تم إنفاق مليارات من الدولارات على المشروع لكن التكلفة النهائية له كانت أقل من تلك المتوقعة! كما أن العائد منه أضعاف مضاعفة في صورة التقدّم العلمي الناتج عن المشروع.
"مقابل كل دولار استثمرناه لفك تسلسل خريطة الجينوم البشري ربح الاقتصاد 140 دولارًا!"إذا كان هذا مشروعًا طموحًا إلى أبعد حد وسابق لزمنه بشكل كبير، لذا فإن عدم انتهائه في الوقت المتوقع يمكن فهمه في ضوء هذه المعطيات، كما أن آثاره الإيجابية تفوق أي تكلفة أو جهد.
— باراك أوباما (رئيس الولايات المتحدة الأمريكية)، في خطاب عام 2013
لنفهم أكثر..
لم ينتهي مشروع الجينوم بشكل كامل إلا منذ أسابيع قليلة! عام 2021! بعد 31 عامًا من بدايته! تم إعلان اكتمال المشروع ونسخة الجينوم البشري عدة مرات، لكن الحقيقة إنه لم يكتمل تماًما. حوالي 8% من الجينوم لم تكن قد اكتمل معرفة تتابعها بعد، ولم يحصل هذا إلا شهر مايو الماضي!لماذا احتاج المشروع لكل هذا الوقت؟ ولماذا لم يكتمل من المرة الأولى (أو الثانية)؟
بشكل عام، المادة الوراثية لجميع الكائنات الحية هي نفسها، أربعة أحرف (A, C, G, و T). اختلاف ترتيب هذه الحروف هو ما يميز المادة الوراثية للفيل عن تلك للبكتيريا!
لهذا فإن الهدف من وراء مشروع الجينوم البشري، وهو معرفة تتابع القواعد النيتروجينية في الإنسان، من الأهمية أن يكون من المُبرر إنفاق مليارات من الدولارات لتحقيقه، فترتيب هذه الحروف هو ما يحدد كل شيء!
هذا التتابع هو نفسه في كل خلايا الجسم، عند استخراج المادة الوراثية من الخلايا لا يتم استخراج المادة الوراثية لخلية واحدة، وإنما لعدد كبير من الخلايا. يتم تقطيع هذا الجينوم إلى أجزاء أصغر يمكن العمل معها، هكذا يصبح الأمر أشبه بحل لوحة بازل (puzzle)، لكن القطع الموجودة مكررة عددًا هائلًا من المرات! هذا يفسر جزء من صعوبة معرفة تتابع جينوم ضخم مثل جينوم الإنسان مقارنة مع جينوم صغير مثل عدد كبير من تتابعات الجينوم للفيروسات مثلًا والتي سبقت الجينوم البشري بسنوات.
الخطوات الأخيرة..
أيهما أصعب؟ اللحظات والخطوات الأولى من السباق أم الخطوات الأخيرة؟ يمتلئ تراثنا بحكم وأمثال متناقضة عن اللحظتين، لكن في مشروع الجينوم البشري كانت الخطوات الأخيرة هي الأصعب.بالعودة إلى مثال لوحة البازل، في حالة تحديد تتابعات الجينوم، يتم ترتيب القطع الصغيرة بواسطة الكمبيوتر. المشكلة أن هناك الكثير من التكرار في الجينوم، هكذا، يصبح من الصعب معرفة الترتيب لإكمال البازل.
جاء الحل في صورة تقدم علمي حصل خلال السنوات الماضية، حيث تم اختراع تقنيات جديدة لمعرفة تتابعات المادة الوراثية قادرة على إنتاج قطع/أجزاء (Fragments) أكبر من المادة الوراثية، يشبه الأمر أن تكون لديك بازل بقطع كبيرة بدل الصغيرة جدًا، أيهما أسهل في التركيب؟ الكبيرة بالطبع!
معرفة تتابعات المادة الوراثية هي عملية تشبه لعبة بازل، كلما كانت القطع أكبر كان تجميعها أسهل! |
من الأمثلة على هذه التقنيات تقنية SMRT من PacBio (Pacific Biosciences) و تلك المقدمة من Oxford Nanopore.
لكن الأمر ليس فقط قطع جينوم أكبر. الـDNA الذي تم فحصه كان من مصدر مختلف عن المعتاد. في المعتاد يتم الحصول على الـDNA من خلايا حية، لكن هذه المرة تم الاعتماد على سلالة خلايا مصدرها هو نسيج ينتج عن تلقيح الحيوان المنوي لبويضة ليس بها كروموسومات من الأنثى، هكذا أصبح من الممكن أن نكون متأكدين أن كل الكروموسومات مصدرها واحد (الأب) ولا نحتاج للتفرقة بين الكروموسومات المختلفة.
هكذا، ولأول مرة، بفضل التقدم العلمي خلال السنوات الأخيرة، أصبحت لدينا نسخة مكتملة من الجينوم البشري. برغم هذا فإنه لا يمكن اعتبار هذه نسخة نهائية بلا أخطاء، حيث لا يزال هناك مجال للتطوير والتحسين مع التقدم العلمي.
المصادر
- Human Genome Project Timeline, Human Genome Project Archive- SMRT Sequencing - PacBio
- Towards population-scale long-read sequencing - Nature
- A complete human genome sequence is close - Nature
- Oxford Nanopore Technologies