تحليل الحمض النووي بالعين المجردة: كيف يمكن للتقنية الحيوية أن تساعد مزارعي الماشية

داخل أنبوبة بلاستيكية صغيرة الحجم، ٢ ملم مكعب لا أكثر، خالية من جميع الكائنات الحية والأحماض النووية والبروتينات.. لا يعكرها إلا مجموعة صغيرة ومحددة من المُتَفَطِّرة السُلِّيّة (Mycobacterium tuberculosis) المسببة لمرض السل. تقف كل خلية منهم في تماسك وترابط شديد.
وفجأة انهارت سيول من مادة كيميائية عليهم، لم تُحدِث تغيرًا كبيرًا في الخلايا البكتيرية غير اضطراب بسيط في غشاء الخلية. ولم يمر كثير من الوقت حتى تتابعت السيول من مواد أخرى لها تأثير مُدمر على الخلايا. من هذه المواد ما يعرف بالـSDS (كبريتات لوريل الصوديوم) هو يعتبر منظف قوي وله تأثير مدمر على أغشية الكائنات الدقيقة وخاصة البروتينات والدهون، ما جعل البكتيريا في حاله يرثى لها، وتتابعت المواد الكيميائية واحدةً تلو الأخرى، حتى انهارت الخلايا وتفككت تماما، وتفرقت أجزاؤها لتصبح البروتينات في طبقة، والحمض النووي في طبقة أخري، وتشتت الخلايا الضئيلة إلى أجزاء أصغر.

تحليل الحمض النووي من الحليب يمكن أن يجعلنا نعرف عن البكتيريا الممرضة للأبقار

رحلة استخراج الحمض النووي..

وإذا نظرت من بعيد تجد باحثةً ترتدي معطفها الأبيض وتمسك بجهاز مدبب يسمى بالـMicropipette تقوم بسحب كل الحمض النووي (DNA) المستخرج من هذه الخلايا البكتيرية وتضعه في أنبوبة أخرى حتى تأخذهم في رحلة جديدة تقوم خلالها بدراستهم بشكل أعمق من خلال الأجهزة المعملية المتطورة .

كل ما مرت به البكتيريا كانت محاولة طويلة لاستخراج الحمض النووي الخاص بها، استغرقت من الوقت والمجهود والمال الكثير. وكل هذا هو فقط نصف الطريق، فأشلاء الخلية (الحمض النووي) سيبدأ رحلة جديدة للكشف عن أسراره.

فتارة نراه بالعين المجردة حين يظهر تحت الأشعة الفوق البنفسجية فقط عندما يرتبط بجزيئات بروميد الإيثيديوم (ethidium bromide).
وتارة أخرى نعرف تركيزة حين تمر به موجات الأشعة الفوق بنفسجية مجددًا ولكن عند طول موجي محدد (260 و 280 nm).
ويخبرنا عن أعمق أسراره حين يدخل جهاز الـSequencer (جهاز كشف تتابعات الحمض النووي)،  فيفصح عن ترتيب النيكليوتيدات وهي شفرته السرية التي تعطي الخلية كل الإرشادات لتقوم بالعمليات البيولوجية المختلفة وتهب الخلية شكلها وخصائصها.

رحلة شيقة حين تدرسها وتتأمل تفاصيلها، ولكنها تصبح رحلة طويلة ومملة حين تكون روتينًا متكررًا وعائقًا للوصول لنتيجة تحليل مهم وحرج. 


كريسبر كحل لمشكلة صعوبة تحليل الحمض النووري!

من الصعب تكرار كل العمليات التي يحتاجها استخراج وتحليل الحمض النووي في كل مرة يرغب الطبيب في وصف مضاد حيوي لمريض ما، أو في كل مرة يحتاج المزارع لحماية الماشية من الأوبئة المنتشرة بين الحيوانات. 

لهذا يلجأ الكثير لاستخدام الأدوية دون هذه التحاليل.. يشبه هذا حربًا تُستخدم فيها كل الأسلحة المتاحة دون تحديد السلاح المناسب! يعني هذا أن مشاكل عديدة ستحصل، أهمها وأخطرها ما يعرف بـAntimicrobial resistance أو (AMR)، المقاومة المضادة للميكروبات.

على سبيل المثال، يواجه المزارعون في هولندا مشكلة إصابة الأبقار بمرض التهاب الثدي (Mastitis) فيشرع المزارع في تجربة المضادات الحيوية بشكل عشوائي، وفقط إذا فشلت تلك المضادات الحيوية، يلجأ وقتها لإرسال عينات اللبن إلى شركات متخصصة بحيث تقوم بتحليل العينات وتحديد المضاد الحيوي المناسب للسلالة المتسببة في المرض، وهذا التأخير ضد مصلحة كل من المزارع والحيوان.



تلك المشكلة لفتت نظر فريق في جامعة TU Delft أثناء عملهم على مشروع في المسابقة الدولية للهندسة الوراثية (iGEM) ونجحوا في إيجاد حل أسرع وأوفر للتفرقة بين الأحماض النووية للسلالات المختلفة دون الاحتياج إلى استخراج وتحليل الحمض النووي بالطريقة التقليدية. وكان تركيزهم على ابتكار طريقة سهلة للكشف عن الجينات المقاومة المضادات الحيوية. وبذلك أصبحوا قادرين على التنبؤ ما إذا كان مضاد حيوي معين فعالًا أم لا.

استخدم الفريق تقنية كريسبر الشهيرة، وهي تقنية تعد من أهم الابتكارات في عالم الهندسة الوراثية بسبب سهولة وسرعة تعديلها للمادة الوراثية، 

"كان مجرد تحويل جين واحد موضوعًا يستغرق الطالب فيه مجهود دراسة بحثية كاملة"
— بروس كونكلين ـ عالم الوراثة في معاهد جلادستون بكاليفورنيا، متحدثًا عن صعوبة تعديل الجينات وراثيًا قبل اكتشاف كريسبر.


حصلت العالمتان إيمانويل شاربانتييه وجنيفر دودنا على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 2020 عن ابتكارهما لتقنية (كريسبر-كاس9)

كريسبر يستطيع قراءة تسلسل الحمض النووي فيصل لهدف محدد ويبدأ في تقطيع الأجزاء المlراد تعديلها من الحمض النووي. استخدم الفريق crispr cas13a بدلًا من cas-9 الشهير. وهو نوع آخر من كريسبر يقوم بتقطيع الحمض النووي بشكل عشوائي حين يصل للتسلسل المستهدف من RNA. 

عند تعرّف كاس13أ (Crisper Cas13a) على التسلسل المستهدف، يبدأ تنشيطه وبعدها يبدأ بتقطيع الحمض النووري حول هذه المنطقة

وقام الفريق بالجمع بين تقنية كريسبر وظاهرة فيزيائية تسمى LLPS أو (Liquid-Liquid Phase Separation)، ورغم اسمها المعقد إلا أن تأثيرها معروف نرى مثله عند خلط الزيت بالماء ورجهم بقوة مما يؤدي إلي تكوين قطرات صغيرة من الزيت ترفض الاختلاط بالماء نهائيًا بسبب اختلاف قطبية كل منهم. استخدام الفريق الظاهرة نفسها لكن باستخدام مادة كيميائية بها شحنات موجبة وخلطها بشحنات سالبة (الحمض النووي)، فتعطي نفس النتيجة. 


تحليل المادة الوراثية في المزرعة!

داخل أنبوبة صغيرة معقمة يضع المزارع عينة صغيرة ويبدأ برجها بقوة، إذا كان الحمض النووي المشكوك فيه غير موجود، يعني نتيجة سلبية، تتسبب في تعكير المياه، مثل الزيت والماء، بينما في حالة العثور على التسلسل أي أن العينة إيجابية، سيقوم كريسبر بالتعرف عليه ثم يقوم بتقطيع الحمض النووي بشكل عشوائي، وأجزاء الحمض النووي المقطعة قصيرة جدا فتصبح غير كافية لتكوين القطرات المتسببة في تعكير الماء، وبالتالي تظل الأنبوبة صافية. مما يعطي المزارعين وغيرهم القدرة على التفرقة بين العينة السالبة والموجبة خلال ساعة واحدة فقط وبالعين المجردة فقط دون الحاجة للأدوات والأجهزة المتطورة الموجودة في المعامل!  

عينة الـDNA تؤثر في درجة عكارة المياه، فتكون النتيجة سلبية في حال تعكر المياه
في حالة كانت العينة سلبية، تتعكر المياه بسبب عدم تكسّر الحمض النووي

ذلك الابتكار قدمه فريق جامعة دلفت للعالم لأول مرة من خلال المسابقة الشهيرة iGEM، وحصلوا بعدها على براءة اختراع.

يمكن لهذا الابتكار وما يشبهه أن يسهل حياة مئات الآلاف من المزارعين حول العالم، كما أن طرق التعرف على الحمض النووي السريعة والرخيصة مثل هذه يمكن أن يتم تطبيقها في عشرات المجالات الأخرى مثل علوم البيئة وتشخيص الأمراض وغيرها.


مصادر