عام 2020، تم إنفاق ما يقارب 33 مليار دولار على هندسة الخلايا والميكروبات. أكثر من 60% من هذا الرقم تم إنفاقه كرواتب وحوافز للعلماء والتقنيين العاملين في المعامل. الباقي تم إنفاقه على تجهيز المعامل بالآلات والأجهزة، وعلى الكيماويات وباقي المواد المستخدمة في التجارب.
ماذا لو عرفت أن هناك شركة تنفق فقط 30% على الرواتب؟ ربما ستعتقد أنها تبخس العلماء والباحثين حقهم، لكن الحقيقة أن الشركة استطاعت تحقيق ذلك عن طريق الاستعانة بالروبوتات وبالهندسة!
يوم الجمعة (16 سبتمبر 2021) بدأ تداول شركة Ginkgo Bioworks بشكل رسمي في سوق الأسهم. الشركة هي واحدة من أكبر الشركات في العالم في مجال الأحياء التركيبية والهندسة الوراثية وتقدّر قيمتها بأكثر من 15 مليار دولار!
لنتعرف أكثر على الحكاية الملهمة لأكبر شركات الأحياء التركيبية: Ginkgo Bioworks
شركة جينكو بيووركس هي واحدة من أكبر شركات التكنولوجيا الحيوية، وتعتبر الأكبر في مجال الأحياء التركيبية |
البداية: مسابقة هندسة وراثية للطلاب
بالتأكيد سمعت عن المسابقة الدولية للهندسة الوراثية iGEM! لو لم تكن سمعت عنها، فيكفي أن تعرف أنها أكبر مسابقة من نوعها في المجال، ويشارك فيها كل عام مئات الفرق من أنحاء العالم المختلفة.
في عام 2006 شارك فريق من 5 طلاب في المسابقة عن معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT. كان معهم 5 طلاب دراسات عليا، واثنان من أساتذة الجامعة.
عمل الطلاب على مشروع لإنتاج بكتيريا تنتج رائحة تختلف باختلاف مرحلة حياة البكتيريا!
نجح الفريق في هذا فعلًا.. خلال مؤتمر مسابقة iGEM في هذه السنة، لم يكن من الغريب أن ترى بعض الطلاب يشم أنبوبة مختبر مليئة بالبكتيريا!
قام فريق MIT في مسابقة iGEM 2006 بهندسة بكتيريا الإي كولاي بحيث تفوح منها رائحة الموز أو النعناع حسب مرحلة النمو! |
لم يكن ما قام به الفريق هو فقط هندسة البكتيريا لتنتج روائح مختلفة (مثل رائحة الموز ورائحة النعناع)، لكنهم نجحوا أيضًا في جعل البكتيريا تنتج هذه الروائح في ظروف معينة فقط! فكان يتم إنتاج رائحة النعناع خلال مرحلة النمو، بينما تُنتج رائحة الموز خلال مرحلة ثبات النمو البكتيري!
كان هذا إنجازًا وقتها، اليوم يمكن تصميم نظام مشابه خلال ساعات.. لكن وقتها كان هذا كافيًا للفريق ليحصل على جائزة أفضل نظام بيولوجي في المسابقة.
اليوم.. من بين اثنا عشر شخصًا كانوا في الفريق، بين طلاب ومشرفين.. 6 منهم يعملون في شركة Ginkgo Bioworks.. وخمسة منهم هم المؤسسون!
برمجة الحياة
تقدّم شركة Ginkgo خدمة برمجة الكائنات الحية وهندستها لتصنع لك ما تريد! ما تقدمه الشركة بالأساس يشبه ما يقوم به مطوّر تطبيقات هاتف ذكي.. حيث يكتب أكواد تمكّن هاتفك من تأدية مهام معينة.. تقوم Ginkgo بنفس الشيء لكن بدلًا من الهاتف هناك خلية، والكود تتم كتابته بلغة من أربعة حروف (ACGT) بدلًا من الصفر والواحد المستخدمة مع الآلات.
روبوت يقوم بتنفيذ تجارب مختلفة داخل معامل شركة Ginkgo |
رحلة عبر الزمن: 2008 - 2021
بدأت الشركة عام 2008.. أربعة من زملاء الدراسة مع أستاذهم.. يدرس ثلاثة منهم الأحياء بينما يدرس زميلهم الرابع هو وأستاذهم الهندسة!
البروفيسور توم نايت كان يعمل في أحد مراكز الأبحاث في MIT، وكان له دور في عدد من الاختراعات التي تجعل حياتنا اليوم أفضل، لكن قرر أن الثورة القادمة هي في مجال الأحياء، ليبدأ بدراستها وينشيء معمل للأحياء التركيبية ضمن مركز أبحاث الذكاء الصناعي الذي كان يعمل به!
يعتبر توم نايت أحد الآباء الروحيين لمجال الأحياء التركيبية، وهو من بدأ مفهوم اللبنات الحية (BioBricks) والذي يسمح بتركيب الجينات المختلفة بسهولة تركيب المكعبات/ Lego وبنفس الفكرة تقريبًا!
بدأت الشركة في وقت أثرت فيه الأزمة الاقتصادية العالمية على الشركات المختلفة بما فيها شركات التقنية الحيوية، هكذا كانت هذه فرصة لشراء الأجهزة اللازمة لتجهيز المختبرات بأسعار مخفضة!
بدأت الشركة بـ150 ألف دولار قدمها البروفيسور توم نايت.. وهي اليوم يتم تقييمها بأكثر من 15 مليار! 15,000,000,00!
المشروع الأول: إنتاج الزيوت العطرية داخل الميكروبات!
من أول المشروعات التي عملت عليها شركة Ginkgo كان مشروعًا لإنتاج الزيوت العطرية.
تحتاج صناعة العطور إلى زيوت مختلفة، من بينها زيت النعناع. الطريقة التقليدية للحصول عليه هي أن يتم استخراجه من أوراق النعناع. لكن Ginkgo كان لديهم بديل أرخص: إنتاج زيت النعناع في الخميرة!
قام فريق من الشركة بتحليل المادة الوراثية للنعناع، وبتحديد جزء من الـDNA الخاص بها يمكن استخدامه.. ثم قاموا بتعديله بحيث يمكن أن يستخدم مع الخميرة. هكذا و بنفس طريقة إنتاج الكحول في الخميرة، بدلًا من إنتاج الكحول تقوم الخميرة بإنتاج زيت النعناع وبتكلفة أقل!
إلى حد ما يبدو هذا شبيها بما قام به فريق جامعة MIT في المسابقة الدولية للهندسة الوراثية عام 2006، لكن مشاريع شركة Ginkgo لا تتوقف عند هذا.
محاصيل لا تحتاج إلى سماد: الميكروبات في خدمة النبات
كان اختراع الأسمدة النيتروجينة ولا يزال سببًا في إطعام البشرية. يعتمد العالم كله اليوم على هذه الأسمدة لضمان توفير غذاء يكفي الأعداد المتزايدة من البشر، لكن الأضرار البيئية لصناعة الأسمدة تتزايد مع التوسع في إنتاجها.
نسبة كبيرة (تقترب من الـ4%) من الغازات الحبيسة في الجو هي نتيجة لعمليات تصنيع الأسمدة! كما أن تلوث الأنهار قرب مصانع الأسمدة مشكلة لا يمكن إغفالها.
تعمل شركة Ginkgo على تطوير ميكروبات تقوم بعملية التسميد لمحاصيل مختلفة بدون الحاجة لسماد نيتروجيني |
والحل؟ تعتقد شركة Ginkgo أن الحل هو في الطبيعة نفسها! لدى بعض النباتات القدرة على تثبيت النيتروجين من الهواء، كما لو أنها توفّر السماد لنفسها! تتم هذه العملية بمساعدة بكتيريا. وهذه القدرة الفريدة لبعض النباتات هي السر وراء تدوير المحاصيل الذي ينصح به المزارعون للمحافظة على تربة الأراضي الزراعية.
تعمل Ginkgo مع شركة Bayer (وهي مالك أكبر شركات إنتاج البذور في العالم) على نقل هذه القدرة الفريدة على تثبيت النيتروجين من ميكروبات النباتات التي تملكها، إلى ميكروبات نباتات أخرى مهمة للأمن الغذائي (مثل الذرة والقمح).
مشاريع في كل المجالات
لا تتوقف مشاريع شركة Ginkgo على هذه الأمثلة..
لدى الشركة شراكة بقيمة 160 مليون دولار مع شركة Roche لإنتاج مضادات حيوية جديدة، كما أنهم يعملون على مشاريع أخرى مختلفة في الغذاء والطب وغيرها. كذلك كان لهم دور في جائحة كورونا، حيث توفر الشركة تحاليل كورونا للمدارس في عدد كبير من الولايات.
الآلات في خدمة الأحياء!
لا تتميز Ginkgo بالمشاريع المختلفة التي تعمل عليها والأهداف الكبيرة فقط، لكن الطريقة التي تقوم بها بتحقيق هذه الأهداف تستحق نفس القدر من الانبهار.
يظهر دمج الأحياء بالهندسة في اعتماد شركة Ginkgo على الروبوتات لتأدية المهام المختلفة | NYT |
تعتمد الشركة على جيش من الآلات (robots). كل خطوة يمكن أن تقوم بها الآلة بدلًا من الإنسان يتم أتممتها لتقوم بها الآلة! هكذا.. لدى الشركة ما يقترب من 10,000 متر مربع تمتلأ بآلات، مقرهم به آلات تفوق قيمتها أكتر من نصف مليار دولار! 500,000,000$!
إدراج شركة Ginkgo Bioworks هو حدث مهم.. تقييم شركة رائدة في مجال الأحياء التركيبية بهذا التقييم الضخم وتداولها في البورصة هو شهادة لمجال الأحياء التركيبية الوليد بأنه لم يعد مجرد وعود من العلماء في معاملهم، وأننا نشهد بداية عصر جديدة في ثورة الصناعات الحيوية.
حين تم إدراج شركة Netscape بدأ استخدام مصطلح "Netscape moment" أو لحظة Netscape، والتي تصف إدراج شركة في البورصة يكون بداية لثورة كبيرة في مجال ما.. كان إدراج Netscape إشارةً لكون الإنترنت في طريقه أن يغيّر شكل حياتنا.. فهل يكون إدراج شركة Ginkgo بداية لشيء على نفس القدر من التأثيرا؟!
مصادر
- MIT 2006 iGEM Team Wiki Page | iGEM Competition
- Ginkgo Bioworks CEO Wants Biology to Manufacture Physical Good | Bloomberg
- Celebrating iGEM + Ginkgo History | Ginkgo Bioworks
- Biology Starts to Get a Technological Makeover | NTY
- Is Ginkgo’s synthetic-biology story worth $15 billion? | MIT Tech Review